تأخر تصنيف الدعم السريع كإرهابية- مصالح تغلب العدالة في السودان.

المؤلف: د. ياسر محجوب الحسين08.10.2025
تأخر تصنيف الدعم السريع كإرهابية- مصالح تغلب العدالة في السودان.

على الرغم من فظاعة الجرائم التي ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع المتمردة في السودان، والتي وصلت إلى حد الإبادة الجماعية وارتكاب الفظائع جهارًا نهارًا ضد المدنيين، إلا أن الجهود السودانية الرامية إلى تصنيفها كمنظمة إرهابية لم تثمر بعد. هذه الميليشيا تجسد بشكل صارخ مفهوم "البنادق المأجورة"، وهو مصطلح يصف المرتزقة الذين يقاتلون من أجل المال بغض النظر عن الأيديولوجيات أو القيم.

هؤلاء المرتزقة لا يعنيهم سوى الحصول على المكاسب المادية، وهم يعملون بشكل أساسي لتحقيق مصالح من يدفع لهم، سواء كانوا أطرافًا داخلية، أو إقليمية، أو دولية.

هذه "الميزة" تحديدًا جعلت الأطراف المستفيدة من خدمات ميليشيا الدعم السريع تعارض بشدة تصنيفها كمنظمة إرهابية، وهو التصنيف الذي تستحقه بجدارة. بدأت هذه الميليشيا كقوة شبه عسكرية من "الجنجويد" – وهي مجموعات مسلحة غير نظامية في دارفور – ثم تطورت لتصبح قوة منظمة بقانون تشارك في النزاعات الداخلية.

على الرغم من التقارير الحقوقية التي توثق انتهاكاتها الجسيمة، إلا أن العوامل السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية لا تزال تمارس تأثيرًا كبيرًا في تأخير تصنيفها كمنظمة إرهابية. هذا التردد يعكس ازدواجية المعايير لدى المجتمع الدولي، حيث تُعطى المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية الأولوية على حساب العدالة الدولية المزعومة.

وتجدر الإشارة إلى تصريح أدلى به مؤخرًا موظف سابق في البيت الأبيض متخصص في شؤون القرن الأفريقي والسودان، بعد أن ترك منصبه الرسمي، لقناة الجزيرة، حيث أكد على ضرورة تصنيف ميليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية، نظرًا للأعمال الإرهابية التي ترتكبها ضد الشعب السوداني.

من الواضح أن هناك أولويات تتعلق بمصالح الدول الكبرى والإقليمية، التي تخشى أن يؤدي هذا التصنيف إلى فقدان شريك أمني أو "بندقية مأجورة". ما قد يتعارض مع مصالح بعض القوى الدولية هو أن تصنيف هذه الميليشيا كمنظمة إرهابية سيؤدي إلى نتائج إيجابية على الأوضاع الداخلية في السودان، بدءًا من إنهاء الصراع المسلح وتقليل الانقسامات الاجتماعية، وصولًا إلى التأثير الإيجابي على الاقتصاد وتخفيف معاناة المدنيين.

علاوة على ذلك، فإن هذا التصنيف سيساهم في حلحلة تعقيدات العملية السياسية، وسيمكن الدبلوماسية السودانية من التحرك بنشاط أكبر، مما يسهل إيجاد حلول سلمية وتحقيق استقرار دائم.

نشأة رغائبية مشوهة

بدأ التفكير في إنشاء ميليشيا الدعم السريع في عام 2003، لأسباب أمنية بحتة تتعلق باضطراب الأوضاع في إقليم دارفور مع بداية التمرد هناك. لكن سرعان ما تم استغلالها بشكل انتهازي في ظل حالة عدم اليقين وتزعزع الثقة بين أركان السلطة، خاصة بعد انشقاق الحزب الحاكم آنذاك في عام 1999.

في ظل طبيعة النزاع المتوارث في دارفور بين القبائل الرعوية والزراعية، ومع تأثر السودان بالحرب الأهلية في تشاد المجاورة التي تربطها به حدود مفتوحة وقبائل مشتركة، اتخذت النزاعات بين القبائل أشكالًا مسلحة تتطور بشكل تصاعدي مع زيادة تدفق السلاح من تشاد.

قامت مجموعات من القبائل المحلية بتشكيل قوات مسلحة عُرفت باسم "الجنجويد"، وأظهرت براعة في فنون القتال والمناورة في مناطق ذات طبيعة سهلية شاسعة تجد أقوى الجيوش صعوبة في الانتشار فيها والسيطرة عليها.

هذه المميزات دفعت السلطة المركزية في عهود مختلفة، وخاصة في عهد الرئيس السابق عمر البشير، إلى السعي لاستغلالها وتجنيدها لصالح السيطرة على المجموعات المتمردة ذات الأهداف السياسية، والتي ربما كانت مدعومة من الخارج.

إلا أن حكومة البشير تجاهلت السمعة السيئة للجنجويد، نتيجة للاتهامات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم ضد المدنيين. والحقيقة أن السلطة المركزية كانت كمن يحاول عبثًا ترويض ذئب ليجعله أليفًا يعيش بين الناس، ولكن الذئب يظل ذئبًا، ولا يمكن تغيير طبيعته الأصلية.

في عام 2013، قررت حكومة البشير إعادة تنظيم هذه الميليشيا في هيكل رسمي، رغم اعتراضات ضباط من الجيش، وأطلقت عليها اسم "قوات الدعم السريع"، ومنحتها وضعًا قانونيًا ضمن الجيش القومي، ولكن بصيغة ملتبسة. وتم تعيين محمد حمدان دقلو، المعروف بـ "حميدتي"، قائدًا لهذه القوات.

غير أن هذه القوات بقيت – لسبب دفين في نفس البشير – تابعة له مباشرة، ولم تتبع لهيئة أركان الجيش، كما كان يفترض، وهذا الأمر أدى لاحقًا إلى تفلتها ومحاولة بناء نفسها كجيش موازٍ بعقيدة مختلفة عن عقيدة الجيش الوطني القومي. وقد ساهم هذا الوضع الشاذ في تعزيز قدرات الميليشيا وتسليحها بشكل كبير بعيدًا عن خطط وسيطرة الجيش، خاصة بعد سقوط نظام البشير في أبريل/ نيسان 2019.

بعد الإطاحة بالبشير، برزت ميليشيا الدعم السريع كقوة رئيسية في المرحلة الانتقالية، ووقعت اتفاقًا مع القوى السياسية للمشاركة في السلطة الانتقالية إلى جانب الجيش، وشغل حميدتي منصب نائب رئيس المجلس السيادي، الأمر الذي جعل الميليشيا لاعبًا رئيسيًا في السياسة السودانية، بل إنها تطلعت لاحقًا للاستيلاء على السلطة بالتعاون والتخابر مع قوى إقليمية ودولية، وكان ذلك السبب الرئيسي في اندلاع الحرب الحالية التي تهدد بانهيار الدولة السودانية.

هذا الوضع المختل لم يمكنها سياسيًا وعسكريًا فحسب، بل مكنها أيضًا من السيطرة على أهم الموارد الاقتصادية في البلاد، وهي مناجم الذهب في دارفور. وكانت عائدات هذا المورد عاملاً حاسمًا في بناء نفوذها العسكري والسياسي، ولعبت دور الوكيل المعتمد للقوى الإقليمية الطامعة في الذهب السوداني.

لذلك كان الهدف من الاستيلاء على السلطة هو ترسيخ هذه الأوضاع الفاسدة لتحويلها من مجرد "بنادق مأجورة" إلى "أنظمة مأجورة"، ومن ثم تحويل الدولة السودانية بأكملها إلى دولة وظيفية خادمة مطيعة للإمبريالية العالمية.

تجاهل رغم التوثيق والاعتراف

إن سلوك هذه الميليشيا أصبح محيرًا ويدل على خلل نفسي ما، وهو سلوك ناتج عن فقدان التوازن العقلي؛ إذ لا يتردد عناصر الميليشيا في تسجيل وتوثيق جرائمهم بأنفسهم، وهم يبدون سعادتهم بذلك دون مواربة. وأظهرت مقاطع فيديو منتشرة من جانبهم إجبار مواطنين اختطفتهم على تقليد نباح الكلاب، ومرة أخرى صوت القطط. وقبل ذلك وثقوا عمليات اغتصاب ارتكبوها بالتناوب على الضحية.

إن الجرائم التي ترتكبها هذه الميليشيا لا تقل بأي حال من الأحوال عن الجرائم الشنيعة التي تندرج في إطار الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وهذه كلها جرائم تتعارض مع القوانين الدولية في المجال الإنساني.

وقد أصدرت العديد من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية تقارير مفصلة عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع في السودان، وتناولت هذه التقارير قضايا القتل الجماعي والاعتقالات التعسفية والانتهاكات ضد المدنيين، بالإضافة إلى استخدام العنف المفرط خلال النزاعات. وفيما يلي نعرض ملخصًا لأبرز هذه التقارير ودور الإعلام العالمي في توثيقها.

في أوائل هذا العام، أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا أمميًا بشأن ارتكاب مجازر في إقليم دارفور، وكان التقرير قاطعًا ولا يحتمل الشك، إذ أفاد بأن نحو 15 ألف شخص قتلوا في مدينة واحدة في منطقة غرب دارفور منذ اندلاع التمرد، في أعمال عنف عرقية نفذتها ميليشيا الدعم السريع.

ونقلت مقاطع مصورة دفن أبرياء أحياء وذبح آخرين في مشاهد هزت الضمير الإنساني بقوة. كما أصدرت "هيومن رايتس ووتش" عدة تقارير تركز على الانتهاكات التي ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع، خاصة في دارفور.

أما منظمة العفو الدولية، فقد أشارت في تقاريرها إلى انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها الميليشيا، مع التركيز على حالات القتل خارج إطار القانون والتعذيب والاعتداء على النساء والأطفال.

تزامنت تقارير المنظمات المعنية مع تقارير صادمة بثتها وسائل إعلام دولية، حيث قامت وكالات مثل (رويترز) و(بي بي سي) و(سي إن إن) بنشر وبث تقارير ميدانية مصورة حول اعتداءات الميليشيا على المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها أو التي استعادها الجيش السوداني من قبضتها.

بالإضافة إلى ذلك، كشفت تحقيقات صحفية استقصائية جوانب أخرى من هذه الانتهاكات، مثل تجنيد الأطفال والعنف ضد النساء. وتمكنت العديد من وسائل الإعلام من نشر شهادات الضحايا والوصول إلى الشهود وإبراز مقابلات وتقارير وثائقية تُظهر الظروف الصعبة التي يواجهها السكان الواقعون تحت وطأة هذه الجرائم.

لماذا يتأخر تصنيف الميليشيا كمنظمة إرهابية؟

هناك العديد من العوامل السياسية التي تمنع ما يُعرف بالمجتمع الدولي من اتخاذ خطوة تصنيف ميليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية. فهناك مصالح إقليمية ودولية في السودان تستند إلى الموقع الاستراتيجي للسودان، وخاصة في منطقة القرن الأفريقي.

وترى بعض القوى الإقليمية أن مصالحها، أو بالأحرى مطامعها، لا يمكن تحقيقها إلا من خلال "البندقية المأجورة" المتمثلة في الميليشيا، وأن تصنيفها كمنظمة إرهابية سيحول دون استخدامها لتحقيق أهدافها.

ليس هذا فحسب، بل هناك تنسيق سياسي مع بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية، التي ترى في الميليشيا "بندقية مأجورة" غير مباشرة يمكن استخدامها في تحقيق أهداف معينة في السودان والمنطقة، مما يدفعها إلى عدم السعي لتصنيفها كمنظمة إرهابية. فضلاً عن أن واشنطن هي وحدها صاحبة "حق الملكية" لمصطلح الإرهاب، وتستخدمه سياسيًا متى تشاء وكيفما تشاء.

كذلك سبق للاتحاد الأوروبي أن استخدم هذه الميليشيات كـ "بندقية مأجورة" للحد من الهجرة غير الشرعية من القرن الأفريقي نحو أوروبا عبر السودان. هذا التعاون الأمني جعل بعض الدول الأوروبية تتردد في تصنيفها كمنظمة إرهابية؛ خشية فقدان شريك محوري في مكافحة الهجرة.

في عام 2016، عقد الاتحاد الأوروبي مع الميليشيا اتفاقًا سريًا لوقف تدفق اللاجئين من أفريقيا عبر السودان بقيمة 110 ملايين يورو، حسب تأكيدات الخارجية السودانية حينذاك. وردت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بغضب في بيان لها: "من السخرية أن يتعاون الاتحاد الأوروبي، الذي تأسس على قاعدة من القيم، مع حكومات مستبدة تحتقر الحقوق الإنسانية، لمجرد الرغبة في منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا".

القوى الدولية والإقليمية المعارضة لتصنيف الميليشيا كمنظمة إرهابية سخرت آلتها الإعلامية لتبني خطابًا يتعلق بالدور العسكري والسياسي للميليشيا داخليًا؛ بهدف دفع الآخرين للوقوف في صف المعارضة أو على الأقل تأخير أو عرقلة تحقيق تلك الخطوة المهمة.

يزعم هذا الخطاب، الذي يغلف الباطل بالحق، أن الميليشيا أصبحت جزءًا من البنية السياسية والعسكرية في السودان، ولها نفوذ في البلاد. لذا، يُخشى من أن يؤدي تصنيفها كمنظمة إرهابية إلى تفاقم الأزمة السياسية والأمنية في السودان وإضعاف الحكومة المركزية.

كذلك يروج المعارضون ويخوفون من التبعات الاقتصادية للتصنيف الإرهابي للميليشيا، إذ سيؤدي إلى زيادة المخاطر على شركات التعدين والنفط في المناطق التقليدية للميليشيا وحواضنها الاجتماعية.

ويقولون إن فرض عقوبات أو تصنيفها كمنظمة إرهابية سيؤدي إلى تعقيدات قانونية بالنسبة للشركات الدولية التي تعمل في هذه المناطق، مما يضر بالمصالح الاقتصادية لهذه الشركات والدول التي تدعمها.

ربما لو اكتفى المعارضون بالقول إن تصنيف الميليشيا كمنظمة إرهابية سيؤدي إلى تفككها إلى مجموعات إرهابية صغيرة، كما يبدو عليه حالها اليوم بعد الضربات القوية التي وجهها لها الجيش، لكان ذلك يبدو منطقيًا ومقبولًا وأبعد عنهم شبهة النوايا السيئة التي تقف عائقًا أمام إقرار تصنيف دولي للميليشيا باعتبارها منظمة إرهابية، الأمر الذي سيسهم في القضاء عليها بشكل نهائي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة